الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)} لما ذكر سبحانه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في بلية عظيمة من قومه ومحنة شديدة، أراد أن يبين أن جميع الأنبياء كانوا كذلك، حتى أن هذه عادة قديمة، سنها إبليس اللعين، وأيضاً لما ذكر أن الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ذكر ها هنا ما يحقق ذلك فقال: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ} هذه القصة قد ذكرها الله سبحانه في سبعة مواضع: في البقرة، والأعراف، والحجر، وهذه السورة، والكهف، وطه، وص، وقد تقدّم تفسيرها مبسوطاً فلنقتصر ها هنا على تفسير ما لم يتقدّم ذكره من الألفاظ، فقوله: {طِينًا} منتصب بنزع الخافض، أي: من طين، أو على الحال. قال الزجاج: المعنى لمن خلقته طيناً، وهو منصوب على الحال. {أَرَءيْتَكَ} أي: أخبرني عن هذا الذي فضلته عليّ لم فضلته؟ وقد {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الاعراف: 12] فحذف هذا للعلم به {لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ} أي: لأستولينّ عليهم بالإغواء والإضلال. قال الواحدي: أصله من احتناك الجراد الزرع، وهو أن تستأصله بأحناكها وتفسده، هذا هو الأصل، ثم سمي الاستيلاء على الشيء وأخذه كله احتناكاً؛ وقيل معناه: لأسوقنّهم حيث شئت، وأقودنّهم حيث أردت، من قولهم: حنكت الفرس أحنكه حنكاً: إذا جعلت في فيه الرسن، والمعنى الأوّل أنسب بمعنى هذه الآية، ومنه قول الشاعر: أشكو إليك سنة قد أجحفت *** جهدا إلى جهد بنا وأضعفت واحتنكت أموالنا واختلفت *** أي: استأصلت أموالنا، واللام في {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ} هي الموطئة، وإنما أقسم اللعين هذا القسم على أنه سيفعل بذرية آدم ما ذكره لعلم قد سبق إليه من سمع استرقه، أو قاله لما ظنه من قوة نفوذ كيده في بني آدم، وأنه يجري منهم في مجاري الدم، وأنهم بحيث يروج عندهم كيده وتنفق لديهم وسوسته إلاّ من عصم الله، وهم المرادون بقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} وفي معنى هذا الاستثناء قوله سبحانه: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 20]. فإنه يفيد أنه قال ما قاله هنا اعتماداً على الظن، وقيل: إنه استنبط ذلك من قول الملائكة {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]، وقيل: علم ذلك من طبع البشر لما ركب فيهم من الشهوات، أو ظنّ ذلك لأنه وسوس لآدم، فقبل منه ذلك ولم يجد له عزماً، كما روي عن الحسن. {قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} أي: أطاعك {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ} أي: إبليس ومن أطاعه {جَزَاء مَّوفُورًا} أي: وافراً مكملاً، يقال: وفرته أفره وفراً، ووفر المال بنفسه يفر وفوراً، فهو وافر، فهو مصدر، ومنه قول زهير: ومن يجعل المعروف من دون عرضه *** يفره ومن لا يتّقي الشتم يشتم ثم كرّر سبحانه الإمهال لإبليس اللعين فقال: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} أي: استزعج واستخف من استطعت من بني آدم، يقال: أفزه واستفزه أي: أزعجه واستخفه، والمعنى: أستخفهم بصوتك داعياً لهم إلى معصية الله، وقيل: هو الغناء واللهو واللعب والمزامير {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} قال الفراء وأبو عبيدة: أجلب من الجلبة والصياح، أي: صح عليهم. وقال الزجاج أي: أجمع عليهم كل ما تقدر من مكايدك. فالإجلاب: الجمع. والباء في {بخيلك} زائدة. وقال ابن السكيت: الإجلاب: الإعانة، والخيل تقع على الفرسان كقوله صلى الله عليه وسلم: «يا خيل الله اركبي»، وتقع على الأفراس، والرجل بسكون الجيم: جمع رجل كتاجر وتجر، وصاحب وصحب. وقرأ حفص بكسر الجيم على أنه صفة. قال أبو زيد: يقال: رجل ورجل، بمعنى راجل، فالخيل والرجل كناية عن جميع مكايد الشيطان، أو المراد كل راكب وراجل في معصية الله. {وَشَارِكْهُمْ فِى الأموال والأولاد} أما المشاركة في الأموال، فهي: كل تصرف فيها يخالف وجه الشرع سواء كان أخذاً من غير حق، أو وضعاً في غير حق كالغصب والسرقة والربا، ومن ذلك تبتيك آذان الأنعام وجعلها بحيرة وسائبة، والمشاركة في الأولاد: دعوى الولد بغير سبب شرعي، وتحصيله بالزنا وتسميتهم بعبد اللات وعبد العزى، والإساءة في تربيتهم على وجه يألفون فيه خصال الشر وأفعال السوء ويدخل فيه ما قتلوا من أولادهم خشية إملاق، ووأد البنات وتصيير أولادهم على الملة الكفرية التي هم عليها، ومن ذلك مشاركة الشيطان للمجامع إذا لم يسم، ثم قال: {وعدهُمْ} قال الفراء: قل لهم: لا جنة ولا نار. وقال الزجاج: وعدهم بأنهم لا يبعثون {وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً} أي: باطلاً، وأصل الغرور: تزيين الخطأ بما يوهم الصواب؛ وقيل معناه: وعدهم النصرة على من خالفهم، وهذه الأوامر للشيطان من باب التهديد والوعيد الشديد، وقيل: هي على طريقة الاستخفاف به وبمن تبعه. {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} يعني: عباده المؤمنين كما في غير هذا الموضع من الكتاب العزيز من أن إضافة العباد إليه يراد بها المؤمنون لما في الإضافة من التشريف، وقيل: المراد جميع العباد بدليل الاستثناء بقوله في غير هذا الموضع {إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} [الحجر: 42] والمراد بالسلطان: التسلط {وكفى بِرَبّكَ وَكِيلاً} يتوكلون عليه، فهو الذي يدفع عنهم كيد الشيطان ويعصمهم من إغوائه. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال إبليس إن آدم خلق من تراب من طين، خلق ضعيفاً وإني خلقت من نار، والنار تحرق كل شيء {لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً} فصدق ظنّه عليهم. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه {لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ} قال: لأستولينّ. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد {لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ} قال: لأحتوينّهم. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: لأضلنّهم. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد {مَّوفُورًا} قال: وافراً. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} قال: صوته: كل داع دعا إلى معصية الله {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ} قال: كل راكب في معصية الله {وَرَجِلِكَ} قال: كل راجل في معصية الله {وَشَارِكْهُمْ فِى الأموال} قال: كل مال في معصية الله {والأولاد} قال: كل ما قتلوا من أولادهم وأتوا فيهم الحرام. وأخرج الفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه في الآية قال: كل خيل تسير في معصية الله، وكل مال أخذ بغير حقه، وكل ولد زنا. وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: {الأموال} ما كانوا يحرّمون من أنعامهم {والأولاد} أولاد الزنا. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: {الأموال} البحيرة والسائبة والوصيلة لغير الله {والأولاد} سموا عبد الحارث وعبد شمس.
{رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} قوله: {رَّبُّكُمُ الذى يُزْجِى لَكُمُ الفلك فِى البحر} الإزجاء: السوق والإجراء والتسيير، ومنه قوله سبحانه {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِى سَحَاباً} [النور: 43]. وقول الشاعر: يا أيها الراكب المزجي مطيته *** سائل بني أسد: ما هذه الصور وقول الآخر: عوذا تزجي خلفها أطفالها *** والمعنى: أن الله سبحانه يسيّر الفلك في البحر بالريح، والفلك ها هنا جمع، وقد تقدّم، والبحر هو الماء الكثير عذباً كان أو مالحاً، وقد غلب هذا الاسم على المشهور {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي: من رزقه الذي تفضل به على عباده، أو من الربح بالتجارة، و«من» زائدة أو للتبعيض، وفي هذه الآية تذكير لهم بنعم الله سبحانه عليهم حتى لا يعبدوا غيره ولا يشركوا به أحداً، وجملة: {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} تعليل لما تقدّم أي: كان بكم رحيماً فهداكم إلى مصالح دنياكم. {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر} يعني: خوف الغرق {فِى البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ} من الآلهة وذهب عن خواطركم، ولم يوجد لإغاثتكم ما كنتم تدعون من دونه من صنم، أو جنّ، أو ملك، أو بشر {إِلاَّ إِيَّاهُ} وحده فإنكم تعقدون رجاءكم برحمته وإغاثته، والاستثناء منقطع، ومعنى الآية: أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم وسائر معبوداتهم أنها نافعة لهم في غير هذه الحالة، فأما في هذه الحالة فإن كل واحد منهم يعلم بالفطرة علماً لا يقدر على مدافعته أن الأصنام ونحوها لا فعل لها {فَلَمَّا نجاكم إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ} عن الإخلاص لله وتوحيده ورجعتم إلى دعاء أصنامكم والاستغاثة بها {وَكَانَ الإنسان كَفُورًا} أي: كثير الكفران لنعمة الله، وهو تعليل لما تقدّمه، والمعنى: أنهم عند الشدائد يتمسكون برحمة الله، وفي الرخاء يعرضون عنه. ثم أنكر سبحانه عليهم سوء معاملتهم قائلاً: {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر} الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره: أنجوتم فأمنتم فحملكم ذلك على الإعراض، فبين لهم أنه قادر على هلاكهم في البرّ وإن سلموا من البحر. والخسف أن تنهار الأرض بالشيء، يقال: بئر خسيف إذا انهدم أصلها، وعين خاسف: أي. غائرة حدقتها في الرأس، وخسفت عين الماء: إذا غار ماؤها، وخسفت الشمس: إذا غابت عن الأرض، و{جانب البرّ} ناحية الأرض، وسماه جانباً، لأنه يصير بعد الخسف جانباً، وأيضاً فإن البحر جانب من الأرض والبرّ جانب؛ وقيل: إنهم كانوا على ساحل البحر، وساحله جانب البرّ فكانوا فيه آمنين من مخاوف البحر، فحذرهم ما أمنوه من البرّ كما حذرهم ما خافوه من البحر {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} قال أبو عبيدة والقتيبي: الحصب: الرمي أي: ريحاً شديدة حاصبة، وهي التي ترمي بالحصى الصغار. وقال الزجاج: الحاصب: التراب الذي فيه حصباء، فالحاصب: ذو الحصباء كاللابن، والتامر؛ وقيل: الحاصب: حجارة من السماء تحصبهم كما فعل بقوم لوط، ويقال للسحابة التي ترمي بالبرد: حاصب، ومنه قول الفرزدق: مستقبلين جبال الشام تضربنا *** بحاصب كنديف القطن منثور {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً} أي: حافظاً ونصيراً يمنعكم من بأس الله. {أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أخرى} أي: في البحر مرة أخرى بأن يقوي دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى ركوبه، وجاء بفي ولم يقل إلى البحر، للدلالة على استقرارهم فيه {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مّنَ الريح} القاصف: الريح الشديدة التي تكسر بشدّة، من قصف الشيء يقصفه أي: كسره بشدّة، والقصف: الكسر، أو هو الريح التي لها قصيف أي: صوت شديد من قولهم رعد قاصف أي: شديد الصوت {فَيُغْرِقَكُم} قرأ أبو جعفر، وشيبة، ورويس، ومجاهد (فتغرقكم) بالتاء الفوقية على أن فاعله الريح. وقرأ الحسن وقتادة، وابن وردان (فيغرقكم) بالتحتية والتشديد في الراء. وقرأ أبو جعفر أيضاً (الرياح). وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنون في جميع هذه الأفعال. وقرأ الباقون بالياء التحتية في جميعها أيضاً، والباء في {بما كفرتم} للسببية أي: بسبب كفركم {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} أي: ثائراً يطالبنا بما فعلنا. قال الزجاج: لا تجدوا من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم. قال النحاس: وهو من الثأر، وكذا يقال لكل من طلب بثأر أو غيره تبيع وتابع. {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ} هذا إجمال لذكر النعمة التي أنعم الله بها على بني آدم أي: كرّمناهم جميعاً، وهذه الكرامة يدخل تحتها خلقهم على هذه الهيئة الحسنة وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس على وجه لا يوجد لسائر أنواع الحيوان مثله. وحكى ابن جرير عن جماعة أن هذا التكريم هو أنهم يأكلون بأيديهم، وسائر الحيوانات تأكل بالفم، وكذا حكاه النحاس. وقيل: ميزهم بالنطق والعقل والتمييز، وقيل: أكرم الرجال باللحى والنساء بالذوائب. وقال ابن جرير: أكرمهم بتسليطهم على سائر الخلق وتسخير سائر الخلق لهم، وقيل: بالكلام والخط والفهم، ولا مانع من حمل التكريم المذكور في الآية على جميع هذه الأشياء. وأعظم خصال التكريم العقل، فإن به تسلطوا على سائر الحيوانات، وميزوا بين الحسن والقبيح، وتوسعوا في المطاعم والمشارب، وكسبوا الأموال التي تسببوا بها إلى تحصيل أمور لا يقدر عليها الحيوان، وبه قدروا على تحصيل الأبنية التي تمنعهم مما يخافون، وعلى تحصيل الأكسية التي تقيهم الحرّ والبرد، وقيل تكريمهم: هو أن جعل محمداً صلى الله عليه وسلم منهم {وحملناهم فِى البر والبحر} هذا تخصيص لبعض أنواع التكريم، حملهم سبحانه في البرّ على الدواب، وفي البحر على السفن، وقيل: حملناهم فيهما حيث لم نخسف بهم ولم نغرقهم {وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات} أي: لذيذ المطاعم والمشارب وسائر ما يستلذونه وينتفعون به {وفضلناهم على كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} أجمل سبحانه هذا الكثير ولم يبين أنواعه فأفاد ذلك أن بني آدم فضلهم سبحانه على كثير من مخلوقاته. وقد جعل بعض أهل العلم الكثير هنا بمعنى الجميع وهو تعسف لا حاجة إليه. وقد شغل كثير من أهل العلم بما لم تكن إليه حاجة ولا تتعلق به فائدة، وهو مسألة تفضيل الملائكة على الأنبياء أو الأنبياء على الملائكة، ومن جملة ما تمسك به مفضلو الأنبياء على الملائكة هذه الآية، ولا دلالة لها على المطلوب لما عرفت من إجمال الكثير وعدم تبيينه، والتعصب في هذه المسألة هو الذي حمل بعض الأشاعرة على تفسير الكثير هنا بالجميع حتى يتم له التفضيل على الملائكة، وتمسك بعض المعتزلة بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء. ولا دلالة بها على ذلك، فإنه لم يقم دليل على أن الملائكة من القليل الخارج عن هذا الكثير، ولو سلمنا ذلك فليس فيما خرج عن هذا الكثير ما يفيد أنه أفضل من بني آدم، بل غاية ما فيه أنه لم يكن الإنسان مفضلاً عليه. فيحتمل أن يكون مساوياً للإنسان، ويحتمل أن يكون أفضل منه، ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال، والتأكيد بقوله: {تَفْضِيلاً} يدل على عظم هذا التفضيل وأنه بمكان مكين، فعلى بني آدم أن يتلقوه بالشكر ويحذروا من كفرانه. وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {يُزْجِى} قال: يجري، وأخرجوا عن قتادة قال: يسيرها في البحر. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {حاصبا} قال: مطر الحجارة. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة قال: حجارة من السماء. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس {قَاصِفًا مّنَ الريح} قال: التي تغرق. وأخرج أبو عبيد، وابن المنذر، عن عبد الله بن عمرو قال: القاصف والعاصف في البحر. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {قَاصِفًا} قال: عاصفاً، وفي قوله: {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} قال: نصيراً. وأخرج الطبراني، والبيهقي في الشعب، والخطيب في تاريخه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم قيل: يا رسول الله ولا الملائكة؟ قال: ولا الملائكة، الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر»، وأخرجه البيهقي من وجه آخر عن ابن عمرو موقوفاً قال: وهو الصحيح. وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: المؤمن أكرم على الله من ملائكته. وأخرج الطبراني عن ابن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الملائكة قالت: يا رب أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة، قال: لا أجعل صالح ذرّية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان» وأخرجه عبد الرزاق، وابن جرير عن زيد بن أسلم قال: قالت الملائكة. وإسناد الطبراني هكذا: حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي، حدّثنا إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي، حدّثنا حجاج بن محمد، حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. وأخرج ابن عساكر من طريق عروة بن رويم قال: حدثني أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو حديث ابن عمرو الأول مع زيادة. وأخرج نحوه البيهقي أيضاً في الأسماء والصفات من وجه آخر عن عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس في قوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ} قال: جعلناهم يأكلون بأيديهم وسائر الخلق يأكلون بأفواههم. وأخرج الحاكم في التاريخ، والديلمي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله: «الكرامة الأكل بالأصابع».
{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)} قوله: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم} قال الزجاج: يعني يوم القيامة، وهو منصوب على معنى أذكر يوم ندعوا. وقرى: (يدعو) بالياء التحتية على البناء للفاعل و(يدعى) على البناء للمفعول، والباء في {بإمامهم} للإلصاق كما تقول: أدعوك باسمك، ويجوز أن تكون متعلقة بمحذوف هو حال، والتقدير: ندعو كل أناس متلبسين بإمامهم، أي: يدعون وإمامهم فيهم نحو ركب بجنوده، والأوّل أولى. والإمام في اللغة كل ما يؤتمّ به من نبيّ أو مقدّم في الدين أو كتاب. وقد اختلف المفسرون في تعيين الإمام الذي تدعى كل أناس به، فقال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والضحاك إنه كتاب كلّ إنسان الذي فيه عمله أي: يدعى كل إنسان بكتاب عمله، ويؤيد هذا قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه} [الحاقة: 19]. الآية، وقال ابن زيد: الإمام هو الكتاب المنزل عليهم فيدعى أهل التوراة بالتوراة، وأهل الإنجيل بالإنجيل، وأهل القرآن بالقرآن، فيقال: يا أهل التوراة، يا أهل الإنجيل، يا أهل القرآن. وقال مجاهد وقتادة: إمامهم: نبيهم فيقال: هاتوا متبعي إبراهيم، هاتوا متبعي موسى، هاتوا متبعي عيسى، هاتوا متبعي محمد، وبه قال الزجاج. وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه؛ المراد بالإمام إمام عصرهم، فيدعى أهل كل عصر بإمامهم الذي كانوا يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه. وقال الحسن وأبو العالية: المراد {بإمامهم}: أعمالهم، فيقال مثلاً: أين المجاهدون، أين الصابرون، أين الصائمون، أين المصلون؟ ونحو ذلك. وروي عن ابن عباس وأبي هريرة. وقال أبو عبيدة، المراد بإمامهم صاحب مذهبهم، فيقال مثلاً: أين التابعون للعالم فلان بن فلان، وهذا من البعد بمكان. وقال محمد بن كعب: {بإمامهم}: بأمهاتهم، على أن إمام جمع أمّ كخف وخفاف، وهذا بعيد جدّاً. وقيل: الإمام: هو كل خلق يظهر من الإنسان حسن كالعلم والكرم والشجاعة، أو قبيح كأضدادها، فالداعي إلى تلك الأفعال خلق باطن هو كالإمام، ذكر معناه الرازي في تفسيره {فَمَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ} من أولئك المدعوّين، وتخصيص اليمين بالذكر للتشريف والتبشير {فَأُوْلَئِكَ} الإشارة إلى «من» باعتبار معناه. قيل: ووجه الجمع الإشارة إلى أنهم مجتمعون على شأن جليل، أو الإشعار بأن قراءتهم لكتبهم تكون على وجه الاجتماع لا على وجه الانفراد {يَقْرَءونَ كتابهم} الذي أوتوه {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي: لا ينقصون من أجورهم قدر فتيل، وهو القشرة التي في شق النواة، أو هو عبارة عن أقلّ شيء، ولم يذكر أصحاب الشمال تصريحاً، ولكنه ذكر سبحانه ما يدلّ على حالهم القبيح فقال: {وَمَن كَانَ فِى هذه أعمى} أي: من كان من المدعوّين في هذه الدنيا أعمى أي: فاقد البصيرة. قال النيسابوري: لا خلاف أن المراد بهذا العمى عمى القلب، وأما قوله: {فَهُوَ فِى الآخرة أعمى} فيحتمل أن يراد به: عمى البصر كقوله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى * قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً} [طه: 124 125] وفي هذا زيادة العقوبة، ويحتمل أن يراد عمى القلب؛ وقيل: المراد بالآخرة: عمل الآخرة، أي: فهو في عمل، أو في أمر الآخرة أعمى؛ وقيل: المراد: من عمي عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا فهو عن نعم الآخرة أعمى؛ وقيل: من كان في الدنيا التي تقبل فيها التوبة أعمى فهو في الآخرة التي لا توبة فيها أعمى؛ وقيل: من كان في الدنيا أعمى عن حجج الله فهو في الآخرة أعمى، وقد قيل: إن قوله: {فَهُوَ فِى الآخرة أعمى} أفعل تفضيل، أي: أشدّ عمى، وهذا مبنيّ على أنه من عمى القلب، إذ لا يقال ذلك في عمى العين. قال الخليل وسيبويه: لأنه خلقه بمنزلة اليد والرجل، فلا يقال ما أعماه كما لا يقال: ما أيداه. وقال الأخفش: لا يقال فيه ذلك لأنه أكثر من ثلاثة أحرف. وقد حكى الفراء عن بعض العرب أنه سمعه يقول: ما أسود شعره، ومن ذلك قول الشاعر: أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم *** لؤما وأبيضهم سربال طباخ والبحث مستوفي في النحو. وقرأ أبو بكر، وحمزة، والكسائي، وخلف. (أعمى) بالإمالة في الموضعين. وقرأهما أبو عمرو ويعقوب والباقون بغير إمالة، وأمال أبو عبيد الأوّل دون الثاني {وَأَضَلُّ سَبِيلاً} يعني: أن هذا أضلّ سبيلاً من الأعمى لكونه لا يجد طريقاً إلى الهداية، بخلاف الأعمى فقد يهتدي في بعض الأحوال. ثم لما عدد سبحانه في الآيات المتقدّمة أقسام النعم على بني آدم أردفه بما يجري مجرى التحذير من الاغترار بوساوس الأشقياء فقال: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}: «إن» هي المخففة من الثقيلة، واسمها: ضمير شأن محذوف، واللام: هي الفارقة بينها وبين النافية، والمعنى: وإن الشأن قاربوا أن يخدعوك فاتنين، وأصل الفتنة: الاختبار، ومنه فتن الصائغ الذهب، ثم استعمل في كل من أزال الشيء عن حدّه وجهته، وذلك لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن وافتراء على الله سبحانه من تبديل الوعد بالوعيد وغير ذلك {عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد {لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} لتتقوّل علينا غير الذي أوحينا إليك مما اقترحه عليك كفار قريش {وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} أي: لو اتبعت أهواءهم لاتخذوك خليلاً لهم أي: والوك وصافوك، مأخوذ من الخلة بفتح الخاء. {وَلَوْلاَ أَن ثبتناك} على الحق وعصمناك عن موافقتهم {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} لقاربت أن تميل إليهم أدنى ميل، والركون هو الميل اليسير، ولهذا قال: {شَيْئًا قَلِيلاً} لكن أدركته صلى الله عليه وسلم العصمة فمنعته من أن يقرب من أدنى مراتب الركون إليهم، فضلاً عن نفس الركون، وهذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم ما همّ بإجابتهم، ذكر معناه القشيري وغيره، وقيل: المعنى وإن كادوا ليخبرون عنك بأنك ملت إلى قولهم، فنسب فعلهم إليه مجازاً واتساعاً كما تقول للرجل: كدت تقتل نفسك، أي: كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت، ذكر معناه المهدوي. ثم توعده سبحانه في ذلك أشدّ الوعيد فقال: {إِذًا لأذقناك ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات} أي: لو قاربت أن تركن إليهم، أي: مثلي ما يعذب به غيرك ممن يفعل هذا الفعل في الدارين، والمعنى: عذاباً ضعفاً في الحياة وعذاباً ضعفاً في الممات أي: مضاعفاً، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وأضيفت، وذلك لأن خطأ العظيم عظيم كما قال سبحانه: {يانساء النبى مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة مُّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30]. وضعف الشيء: مثلاه، وقد يكون الضعف النصيب كقوله: {لِكُلّ ضِعْفٌ} [الأعراف: 38] أي: نصيب. قال الرازي: حاصل الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك وعقدت على الركون همك لاستحققت تضعيف العذاب عليك في الدنيا والآخرة ولصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} ينصرك فيدفع عنك هذا العذاب. قال النيسابوري: اعلم أن القرب من الفتنة لا يدل على الوقوع فيها، والتهديد على المعصية لا يدلّ على الإقدام عليها، فلا يلزم من الآية طعن في العصمة. {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ} الكلام في هذا كالكلام في {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} أي: وإن الشأن أنهم قاربوا أن يزعجوك من أرض مكة لتخرج عنها، ولكنه لم يقع ذلك منهم، بل منعهم الله منه حتى هاجر بأمر ربه بعد أن هموا به، وقيل: إنه أطلق الإخراج على إرادة الإخراج تجويزاً {وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خلفك إِلاَّ قَلِيلاً} معطوف على {ليستفزونك} أي: لا يبقون بعد إخراجك إلاّ زمناً قليلاً، ثم عوقبوا عقوبة تستأصلهم جميعاً. وقرأ عطاء بن أبي رباح: (لا يلبثوا) بتشديد الباء الموحدة. وقرئ: (لا يلبثوا) بالنصب على إعمال «إذ»، على أن الجملة معطوف على جملة: {وَإِن كَادُواْ} لا على الخبر فقط. وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو بكر، وأبو عمرو (خلفك) ومعناه: بعدك. وقرأ ابن عامر، وحفص، وحمزة، والكسائي {خلافك} ومعناه أيضاً: بعدك. وقال ابن الأنباري: {خلافك} بمعنى: مخالفتك، واختار أبو حاتم القراءة الثانية لقوله: {فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خلاف رَسُولِ الله} [التوبة: 81] ومما يدلّ على أن خلاف بمعنى بعد قول الشاعر: عفت الديار خلافها فكأنما *** بسط الشواطب بينهنّ حصيرا يقال: شطبت المرأة الجريد: إذا شققته لتعمل منه الحصير. قال أبو عبيدة: ثم تلقيه الشاطبة إلى المثقبة. {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا} {سنّة} منتصبة على المصدرية، أي: سنّ الله سنّة. وقال الفراء: أي يعذبون كسنّة من قد أرسلنا فلما سقط الخافض عمل الفعل. وقيل: المعنى: سنّتنا سنّة من قد أرسلنا. قال الزجاج: يقول إن سنّتنا هذه السنّة فيمن أرسلنا قبلك إليهم أنهم إذا أخرجوا نبيهم من بين أظهرهم أو قتلوه أن ينزل العذاب بهم {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} أي: ما أجرى الله به العادة لم يتمكن أحد من تحويله ولا يقدر على تغييره. وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم} قال: إمام هدى وإمام ضلالة. وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والخطيب في تاريخه عن أنس في الآية قال: نبيهم. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: بكتاب أعمالهم. وأخرج ابن مردويه عن عليّ في الآية قال: يدعى كل قوم بإمام زمانهم، وكتاب ربهم وسنّة نبيهم. وأخرج الترمذي وحسنه، والبزار، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم} قال: «يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمدّ له في جسمه ستين ذراعاً ويبيض وجهه، ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ، فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون: اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا، حتى يأتيهم فيقول: أبشروا لكل رجل منكم مثل هذا، وأما الكافر فيسود وجهه ويمدّ له في جسمه ستين ذراعاً على صورة آدم، ويلبس تاجاً فيراه أصحابه فيقولون: نعوذ بالله من شر هذا، اللّهم لا تأتنا بهذا، قال: فيأتيهم فيقولون: اللهم اخزه، فيقول: أبعدكم الله، فإن لكل رجل منكم مثل هذا» قال البزار بعد إخراجه: لا يروى إلا من هذا الوجه. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله: {وَمَن كَانَ فِى هذه أعمى} يقول: من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرتي من خلق السماء والأرض والجبال والبحار والناس والدواب وأشباه هذا {فَهُوَ} عما وصفت له {فِى الآخرة} ولم يره {أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} يقول: أبعد حجة. وأخرج الفريابي، وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عنه نحو هذا. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً يقول: من عمي عن قدرة الله في الدنيا فهو في الآخرة أعمى. وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه أيضاً قال: إن أمية بن خلف وأبا جهل بن هشام ورجالاً من قريش أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: تعال فتمسح آلهتنا وندخل معك في دينك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتدّ عليه فراق قومه ويحب إسلامهم فرق لهم، فأنزل الله {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} إلى قوله: {نَصِيراً}. وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن ياذان، عن جابر بن عبد الله مثله. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر، فقالوا لا ندعك تستلمه حتى تستلم بآلهتنا، فقال رسول الله: «وما عليّ لو فعلت والله يعلم مني خلافه»؟ فأنزل الله: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير: أن قريشاً أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: إن كنت أرسلت إلينا فاطرد الذين اتبعوك من سقاط الناس ومواليهم لنكون نحن أصحابك، فركن إليهم، فأوحى الله إليه {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: أنزل الله {والنجم إِذَا هوى} [النجم: 1]. فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى} [النجم: 19]. فألقى عليه الشيطان: تلك الغراييق العلى. وأين شفاعتهم لترتجى، فقرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم ما بقي من السورة وسجد، فأنزل الله {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية، فما زال مهموماً مغموماً حتى أنزل الله {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى} الآية [الحج: 52]. وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس: أن ثقيفاً قالوا للنبيّ: أجلنا سنة حتى يُهدى لآلهتنا، فإذا قبضنا الذي يهدى للآلهة أحرزناه ثم أسلمنا وكسرنا الآلهة فهمّ أن يؤجلهم، فنزلت {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} الآية. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: {ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات} يعني: ضعف عذاب الدنيا والآخرة. وأخرج البيهقي عن الحسن في الآية قال: هو عذاب القبر. وأخرج أيضاً عن عطاء مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم كانت الأنبياء تسكن الشام، فمالك والمدينة؟ فهمّ أن يشخص، فأنزل الله: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض} الآية. وأخرج ابن جرير عن حضرمي أنه بلغه أن بعض اليهود فذكر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر عن عبد الرحمن بن غنم، أن اليهود أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن كنت نبياً فالحق بالشام، فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء، فصدّق النبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا، فتحرّى غزوة تبوك لا يريد إلاّ الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعدما ختمت السورة: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ} إلى قوله: {تَحْوِيلاً} فأمره بالرجوع إلى المدينة، وقال: فيها محياك وفيها مماتك ومنها تبعث، وقال له جبريل: سل ربك فإن لكل نبي مسألة فقال: «ما تأمرني أن أسأل؟» قال: {قُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ واجعل لّى مِن لَّدُنْكَ سلطانا نَّصِيرًا} فهؤلاء نزلن عليه في رجعته من تبوك. قال ابن كثير: وفي هذا الإسناد نظر، والظاهر أنه ليس بصحيح، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يغز تبوك عن قول اليهود، وإنما غزاها امتثالاً لقوله: {قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مّنَ الكفار} [التوبة: 123]. وغزاها ليقتصّ وينتقم ممن قتل أهل مؤتة من أصحابه. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الارض} قال: همّ أهل مكة بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، وقد فعلوا بعد ذلك، فأهلكهم الله يوم بدر، ولم يلبثوا بعده إلاّ قليلاً حتى أهلكهم الله يوم بدر، وكذلك كانت سنّة الله في الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خلافك إِلاَّ قَلِيلاً} قال: يعني بالقليل: يوم أخذهم ببدر، فكان ذلك هو القليل الذين لبثوا بعده.
{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} لما ذكر سبحانه الإلهيات والمعاد والجزاء أردفها بذكر أشرف الطاعات، وهي الصلاة، فقال: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس}. وقد أجمع المفسرون على أن هذه الآية المراد بها: الصلوات المفروضة. وقد اختلف العلماء في الدلوك المذكور في هذه الآية على قولين: أحدهما: أنه زوال الشمس عن كبد السماء، قاله عمر وابنه، وأبو هريرة، وأبو برزة، وابن عباس، والحسن، والشعبي، وعطاء، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وأبو جعفر الباقر، واختاره ابن جرير. والقول الثاني: أنه غروب الشمس، قاله علي، وابن مسعود، وأبيّ بن كعب، وروي عن ابن عباس. قال الفراء: دلوك الشمس: من لدن زوالها إلى غروبها. قال الأزهري: معنى الدلوك في كلام العرب الزوال، ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار: دالكة، وقيل لها إذا أفلت: دالكة، لأنها في الحالتين زائلة. قال: والقول عندي أنه زوالها نصف النهار لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس، والمعنى: أقم الصلاة من وقت دلوك الشمس {إلى غسق الليل} فيدخل فيها الظهر والعصر وصلاتا غسق الليل، وهما العشاءان، ثم قال: {وقرآن الفجر} هذه خمس صلوات. وقال أبو عبيد: دلوكها غروبها، ودلكت براح: يعني الشمس أي: غابت، وأنشد قطرب على هذا قول الشاعر: هذا مقام قدمي رباح *** ذبَّب حتى دلكت براح اسم من أسماء الشمس على وزن حذام وقطام، ومن ذلك قول ذي الرمة: مصابيح ليست باللواتي تقودها *** نجوم، ولا بالآفلات الدوالك أي: الغوارب، وغسق الليل: اجتماع الظلمة. قال الفراء والزجاج: يقال غسق الليل وأغسق: إذا أقبل بظلامه، قال أبو عبيد: الغسق: سواد الليل. قال قيس بن الرقيات: إن هذا الليل قد غسقا *** واشتكيت الهمّ والأرقا وقيل: غسق الليل: مغيب الشفق، ومنه قول زهير: طلت تجود يداها وهي لاهية *** حتى إذا جنح الإظلام والغسق وأصل الكلمة من السيلان يقال: غسقت: إذا سالت. وحكى الفراء غسق الليل وأغسق، وظلم وأظلم، ودجى وأدجى، وغبش وأغبش، وقد استدل بهذه الغاية، أعني قوله: {إلى غسق الليل} من قال: إن صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب، روي ذلك عن الأوزاعي، وأبي حنيفة وجوّزه مالك والشافعي في حال الضرورة، وقد وردت الأحاديث الصحيحة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعيين أوقات الصلوات، فيجب حمل مجمل هذه الآية على ما بينته السنة فلا نطيل بذكر ذلك. قوله: {وقرآن الفجر} انتصاب {قرآن} لكونه معطوفاً على {الصلاة} أي: وأقم قرآن الفجر، قاله الفراء. وقال الزجاج والبصريون: انتصابه على الإغراء: أي فعليك قرآن الفجر. قال المفسرون: المراد بقرآن الفجر صلاة الصبح. قال الزجاج: وفي هذه فائدة عظيمة تدل على أن الصلاة لا تكون إلا بقراءة حتى سميت الصلاة قرآناً، وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أنه «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»، وفي بعض الأحاديث الخارجة من مخرج حسن «وقرآن معها»، وورد ما يدل على وجوب الفاتحة في كل ركعة، وقد حررته في مؤلفاتي تحريراً مجوّداً. ثم علّل سبحانه ذلك بقوله: {إن قرآن الفجر مشهوداً} أي: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار كما ورد ذلك في الحديث الصحيح، وبذلك قال جمهور المفسرين {وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ}: «من» للتبعيض، وانتصابه على الظرفية بمضمر، أي: قم بعض الليل فتهجد به، والضمير المجرور راجع إلى القرآن، وما قيل من أنه منتصب على الإغراء، والتقدير: عليك بعض الليل، فبعيد جداً، والتهجد مأخوذ من الهجود. قال أبو عبيدة وابن الأعرابي: هو من الأضداد، لأنه يقال: هجد الرجل: إذا نام، وهجد: إذا سهر، فمن استعماله في السهر قول الشاعر: ألا زارت وأهل منى هجود *** فليت خيالها بمنى يعود يعني: منتبهين، ومن استعماله في النوم قول الآخر: ألا طرقتنا والرفاق هجود *** فباتت بعلات النوال تجود يعني: نياماً. وقال الأزهري: الهجود في الأصل هو النوم بالليل، ولكن جاء التفعل فيه لأجل التجنب ومنه تأثم وتحرّج، أي: تجنب الإثم والحرج، فالمتهجد: من تجنب الهجود، فقام بالليل. وروي عن الأزهري أيضاً أنه قال: المتهجد: القائم إلى الصلاة من النوم، هكذا حكى عنه الواحدي، فقيد التهجد بالقيام من النوم، وهكذا قال مجاهد، وعلقمة، والأسود فقالوا: التهجد بعد النوم. قال الليث: تهجد إذا استيقظ للصلاة {نَافِلَةً لَّكَ} معنى النافلة في اللغة: الزيادة على الأصل، فالمعنى أنها للنبي صلى الله عليه وسلم نافلة زائدة على الفرائض، والأمر بالتهجد وإن كان ظاهره الوجوب لكن التصريح بكونه نافلة قرينة صارفة للأمر، وقيل: المراد بالنافلة هنا أنها فريضة زائدة على الفرائض الخمس في حقه صلى الله عليه وسلم، ويدفع ذلك التصريح بلفظ النافلة، وقيل: كانت صلاة الليل فريضة في حقه صلى الله عليه وسلم، ثم نسخ الوجوب فصار قيام الليل تطوعاً، وعلى هذا يحمل ما ورد في الحديث أنها عليه فريضة، ولأمته تطوع. قال الواحدي: إن صلاة الليل كانت زيادة للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة لرفع الدرجات، لا للكفارات، لأنه غفر له من ذنبه ما تقدّم وما تأخر، وليس لنا بنافلة لكثرة ذنوبنا، إنما نعمل لكفارتها، قال: وهو قول جميع المفسرين. والحاصل: أن الخطاب في هذه الآية وإن كان خاصاً بالنبيّ في قوله {أَقِمِ الصلاة}، فالأمر له أمر لأمته، فهو شرع عام، ومن ذلك الترغيب في صلاة الليل، فإنه يعمّ جميع الأمة، والتصريح بكونه نافلة يدل على عدم الوجوب، فالتهجد من الليل مندوب إليه ومشروع لكل مكلف. ثم وعده سبحانه على إقامة الفرائض والنوافل فقال: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا} قد ذكرنا في مواضع أن {عسى} من الكريم إطماع واجب الوقوع، وانتصاب {مقاماً} على الظرفية بإضمار فعل، أو بتضمين البعث معنى الإقامة، ويجوز أن يكون انتصابه على الحال أي: يبعثك ذا مقام محمود؛ ومعنى كون المقام محموداً: أنه يحمده كل من علم به. وقد اختلف في تعيين هذا المقام على أقوال: الأول أنه المقام الذي يقومه النبي صلى الله عليه وسلم للشفاعة يوم القيامة للناس ليريحهم ربهم سبحانه مما هو فيه، وهذا القول هو الذي دلت عليه الأدلة الصحيحة في تفسير الآية، وحكاه ابن جرير عن أكثر أهل التأويل، قال الواحدي: وإجماع المفسرين على أن المقام المحمود هو مقام الشفاعة. القول الثاني: أن المقام المحمود إعطاء النبيّ لواء الحمد يوم القيامة. ويمكن أن يقال: إن هذا لا ينافي القول الأوّل، إذ لا منافاة بين كونه قائماً مقام الشفاعة وبيده لواء الحمد. القول الثالث: أن المقام المحمود: هو أن الله سبحانه يجلس محمداً صلى الله عليه وسلم معه على كرسيه، حكاه ابن جرير عن فرقة منهم مجاهد، وقد ورد في ذلك حديث. وحكى النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال: من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم، ما زال أهل العلم يتحدّثون بهذا الحديث. قال ابن عبد البرّ: مجاهد وإن كان أحد الأئمة بالتأويل، فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم: أحدهما هذا، والثاني في تأويل {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 23]. قال: معناه تنتظر الثواب، وليس من النظر. انتهى. وعلى كل حال فهذا القول غير منافٍ للقول الأوّل لإمكان أن يقعده الله سبحانه هذا المقعد ويشفع تلك الشفاعة. القول الرابع: أنه مطلق في كل مقام يجلب الحمد من أنواع الكرامات، ذكره صاحب الكشاف والمقتدون به في التفسير، ويجاب عنه بأن الأحاديث الصحيحة الواردة في تعيين هذا المقام المحمود متواترة، فالمصير إليها متعين، وليس في الآية عموم في اللفظ حتى يقال: الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومعنى قوله: «وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد» أنه عام في كل ما هو كذلك، ولكنه يعبر عن العام بلفظ المطلق، كما ذكره في ذبح البقرة، ولهذا قال هنا. وقيل: المراد: الشفاعة، وهي نوع واحد مما يتناوله، يعني: لفظ المقام، والفرق بين العموم البدليّ والعموم الشموليّ معروف، فلا نطيل بذكره. {وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ}. قرأ الجمهور {مدخل صدق ومخرج صدق} بضم الميمين. وقرأ الحسن، وأبو العالية، ونصر بن عاصم بفتحهما، وهما مصدران بمعنى الإدخال والإخراج، والإضافة إلى الصدق لأجل المبالغة نحو حاتم الجود أي: إدخالاً يستأهل أن يسمى إدخالاً، ولا يرى فيه ما يكره. قال الواحدي: وإضافتهما إلى الصدق مدح لهما، وكل شيء أضفته إلى الصدق فهو مدح. وقد اختلف المفسرون في معنى الآية، فقيل: نزلت حين أمر بالهجرة، يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة واختاره ابن جرير، وقيل: المعنى: أمتني إماتة صدق، وابعثني يوم القيامة مبعث صدق، وقيل: المعنى: أدخلني فيما أمرتني به، وأخرجني مما نهيتني عنه، وقيل: إدخاله موضع الأمن وإخراجه من بين المشركين، وهو كالقول الأوّل، وقيل: المراد إدخال عزّ وإخراج نصر، وقيل: المعنى أدخلني في الأمر الذي أكرمتني به من النبوّة مدخل صدق، وأخرجني منه إذا أمتني مخرج صدق، وقيل: أدخلني القبر عند الموت مدخل صدق، وأخرجني منه عند البعث مخرج صدق، وقيل: أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق، وأخرجني بالصدق. وقيل: الآية عامة في كل ما تتناوله من الأمور فهي دعاء، ومعناها: ربّ أصلح لي وردي في كل الأمور وصدري عنها. {واجعل لّى مِن لَّدُنْكَ سلطانا نَّصِيرًا} أي: حجة ظاهرة قاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني، وقيل: اجعل لي من لدنك ملكاً وعزاً قوّياً وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلاّ بسلطان، فسأل سلطاناً نصيراً. وبه قال الحسن وقتادة واختاره ابن جرير. قال ابن كثير: وهو الأرجح لأنه لا بدّ مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه، ولهذا يقول تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزْلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ومنافع لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله من ينصره ورسله بالغيب} [الحديد: 25] وفي الحديث: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، أي: ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمنع كثيراً من الناس بالقرآن، وما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد الشديد، وهذا هو الواقع. انتهى. {وَقُلْ جَاء الحق وَزَهَقَ الباطل} المراد بالحق: الإسلام، وقيل: القرآن، وقيل: الجهاد ولا مانع من حمل الآية على جميع ذلك وعلى ما هو حق كائناً ما كان، والمراد بالباطل: الشرك، وقيل: الشيطان ولا يبعد أن يحمل على كل ما يقابل الحق من غير فرق بين باطل وباطل. ومعنى زهق: بطل واضمحل، ومنه زهوق النفس وهو بطلانها {إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا} أي: إن هذا شأنه فهو يبطل ولا يثبت، والحق ثابت دائماً. {وَنُنَزّلُ مِنَ القرءان مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ} قرأ الجمهور {ننزل} بالنون. وقرأ أبو عمرو بالتخفيف. وقرأ مجاهد بالياء التحتية والتخفيف، ورواها المروزي عن حفص، و«من» لابتداء الغاية، ويصح أن تكون لبيان الجنس. وقيل: للتبعيض، وأنكره بعض المفسرين لاستلزامه أن بعضه لا شفاء فيه، ورده ابن عطية بأن المبعض هو إنزاله. واختلف أهل العلم في معنى كونه شفاء على القولين: الأوّل: أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وذهاب الريب وكشف الغطاء عن الأمور الدالة على الله سبحانه. القول الثاني: أنه شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقي والتعوّذ ونحو ذلك، ولا مانع من حمل الشفاء على المعنيين من باب عموم المجاز، أو من باب حمل المشترك على معنييه. ثم ذكر سبحانه أنه رحمة للمؤمنين لما فيه من العلوم النافعة المشتملة على ما فيه صلاح الدين والدنيا، ولما في تلاوته وتدبره من الأجر العظيم الذي يكون سبباً لرحمة الله سبحانه ومغفرته ورضوانه، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء والذين لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44]. ثم لما ذكر سبحانه ما في القرآن من المنفعة لعباده المؤمنين، ذكر ما فيه لمن عداهم من المضرّة عليهم فقال: {وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا} أي: ولا يزيد القرآن كله أو كل بعض منه الظالمين الذي وضعوا التكذيب موضع التصديق، والشك والارتياب موضع اليقين والاطمئنان {إَلاَّ خَسَارًا} أي: هلاكاً، لأن سماع القرآن يغيظهم ويحنقهم ويدعوهم إلى زيادة ارتكاب القبائح تمرّداً وعناداً، فعند ذلك يهلكون؛ وقيل: الخسار: النقص كقوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125]. ثم نبّه سبحانه على فتح بعض ما جبل عليه الإنسان من الطبائع المذمومة فقال: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان} أي: على هذا الجنس بالنعم التي توجب الشكر كالصحة والغنى {أَعْرَضَ} عن الشكر لله والذكر له {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} النأي: البعد، والباء للتعدية أو للمصاحبة، وهو تأكيد للإعراض، لأن الإعراض عن الشيء هو أن يوليه عرض وجهه أي: ناحيته، والنأي بالجانب: أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره، ولا يبعد أن يراد بالإعراض هنا: الإعراض عن الدعاء والابتهال الذي كان يفعله عند نزول البلوى والمحنة به، ويراد بالنأي بجانبه: التكبر والبعد بنفسه عن القيام بحقوق النعم. وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وأبو جعفر (ناء) مثل باع بتأخير الهمزة على القلب، وقرأ حمزة (ناءى) بإمالة الفتحتين ووافقه الكسائي، وأمال شعبة والسوسي الهمزة فقط. وقرأ الباقون بالفتح فيهما {وَإِذَا مَسَّهُ الشر} من مرض أو فقر {كَانَ يَئُوساً} شديد اليأس من رحمة الله، والمعنى: أنه إن فاز بالمطلوب الدنيوي وظفر بالمقصود نسي المعبود، وإن فاته شيء من ذلك استولى عليه الأسف، وغلب عليه القنوط، وكلتا الخصلتين قبيحة مذمومة ولا ينافي ما في هذه الآية قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ} [فصلت: 51]. ونظائره، فإن ذلك شأن بعض آخر منهم غير البعض المذكور في هذه الآية، ولا يبعد أن يقال: لا منافاة بين الآيتين، فقد يكون مع شدة يأسه وكثرة قنوطه كثير الدعاء بلسانه. {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ} الشاكلة قال الفراء: الطريقة، وقيل: الناحية، وقيل: الطبيعة، وقيل: الدين، وقيل: النية، وقيل: الجبلة، وهي مأخوذة من الشكل، يقال: لست على شكلي ولا على شاكلتي، والشكل: هو المثل والنظير. والمعنى: أن كل إنسان يعمل على ما يشاكل أخلاقه التي ألفها، وهذا ذمّ للكافر ومدح للمؤمن {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً} لأنه الخالق لكم، العالم بما جبلتم عليه من الطبائع وما تباينتم فيه من الطرائق، فهو الذي يميز بين المؤمن الذي لا يعرض عند النعمة ولا ييأس عند المحنة، وبين الكافر الذي شأنه البطر للنعم والقنوط عند النقم. ثم لما انجرّ الكلام إلى ذكر الإنسان وما جبل عليه، ذكر سبحانه سؤال السائلين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح فقال: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح} قد اختلف الناس في الروح المسئول عنه، فقيل: هو الروح المدبر للبدن الذي تكون به حياته، وبهذا قال أكثر المفسرين. قال الفراء: الروح الذي يعيش به الإنسان لم يخبر الله سبحانه به أحداً من خلقه، ولم يعط علمه أحداً من عباده فقال: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى} أي: إنكم لا تعلمونه، وقيل: الروح المسئول عنه جبريل، وقيل: عيسى، وقيل القرآن، وقيل: ملك من الملائكة عظيم الخلق، وقيل: خلق كخلق بني آدم، وقيل: غير ذلك مما لا طائل تحته ولا فائدة في إيراده، والظاهر القول الأول، وسيأتي ذكر سبب نزول هذه الآية، وبيان السائلين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، ثم الظاهر أن السؤال عن حقيقة الروح، لأن معرفة حقيقة الشيء أهم وأقدم من معرفة حال من أحواله، ثم أمره سبحانه أن يجيب على السائلين له عن الروح فقال: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى} «من» بيانية، والأمر: الشأن، والإضافة للاختصاص، أي: هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأشياء التي لم يعلم بها عباده، وقيل: معنى {مِنْ أَمْرِ رَبّى} من وحيه وكلامه لا من كلام البشر. وفي هذه الآية ما يزجر الخائضين في شأن الروح المتكلفين لبيان ما هيئته وإيضاح حقيقته أبلغ زجر ويردعهم أعظم ردع، وقد أطالوا المقال في هذا البحث بما لا يتم له المقام، وغالبه بل كله من الفضول الذي لا يأتي بنفع في دين ولا دنيا. وقد حكى بعض المحققين أن أقوال المختلفين في الروح بلغت إلى ثمانية عشر مائة قول، فانظر إلى هذا الفضول الفارغ والتعب العاطل عن النفع، بعد أن علموا أن الله سبحانه قد استأثر بعلمه ولم يطلع عليه أنبياءه ولا أذن لهم بالسؤال عنه ولا البحث عن حقيقته فضلاً عن أممهم المقتدين بهم، فيالله العجب حيث تبلغ أقوال أهل الفضول إلى هذا الحدّ الذي لم تبلغه ولا بعضه في غير هذه المسألة مما أذن الله بالكلام فيه، ولم يستأثر بعلمه. ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله سبحانه: {وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} أي: أن علمكم الذي علمكم الله، ليس إلاّ المقدار القليل بالنسبة إلى علم الخالق سبحانه، وإن أوتي حظاً من العلم وافراً، بل علم الأنبياء عليهم السلام ليس هو بالنسبة إلى علم الله سبحانه إلاّ كما يأخذ الطائر في منقاره من البحر، كما في حديث موسى والخضر عليهم السلام. وقد أخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن مسعود قال: {دلوك الشمس}: غروبها، تقول العرب إذا غربت الشمس: دلكت الشمس. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن علي قال: دلوكها: غروبها. وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس، قال: {لِدُلُوكِ الشمس}: لزوال الشمس. وأخرج البزار، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والديلمي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دلوك الشمس زوالها» وضعف السيوطي إسناده. وأخرجه مالك في الموطأ، وعبد الرزاق، والفريابي، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عمر من قوله. وأخرج عبد الرزاق عنه قال: «دلوك الشمس: زياغها بعد نصف النهار» وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير عن ابن عباس قال: دلوكها: زوالها. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عنه في قوله: {لِدُلُوكِ الشمس} قال: إذا فاء الفيء. وأخرج ابن جرير عن أبي مسعود وعقبة بن عمرو قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر» وأخرج ابن جرير عن أبي برزة الأسلمي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس، ثم تلا {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس}. وأخرج ابن مردويه من حديث أنس نحوه. ومما يستشهد به على أن الدلوك الزوال وسط النهار ما أخرجه ابن جرير عن جابر قال: دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه يطعمون عندي، ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس»، وفي إسناده رجل مجهول ولكنه أخرجه عنه من طريق أخرى عن سهل بن بكار، عن أبي عوانة، عن الأسود بن قيس، عن نبيح العنبري، عن جابر فذكر نحوه مرفوعاً. وأخرج الطبراني عن ابن مسعود في قوله: {إلى غسق الليل} قال: إلى العشاء الآخرة. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: {غَسَقِ اليل} اجتماع الليل وظلمته. وأخرج ابن جرير عنه قال: {غَسَقِ اليل}: بدّو الليل. وأخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة قال: دلوك الشمس: إذا زالت الشمس عن بطن السماء وغسق الليل: غروب الشمس. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {وقرآن الفجر} قال: صلاة الصبح. وأخرج أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} قال: «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار تجتمع فيها»، وهو في الصحيحين عنه مرفوعاً بلفظ «تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر»، ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا}. وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني عن ابن مسعود موقوفاً نحوه. وأخرج الحكيم الترمذي، وابن جرير، والطبراني، وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن قرآن الفجر كان مشهودا} قال: «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار» وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {نَافِلَةً لَّكَ} يعني: خاصة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، أمر بقيام الليل وكتب عليه. وأخرج الطبراني في الأوسط، والبيهقي في سننه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث هنّ عليّ فرائض وهنّ لكم سنّة: الوتر، والسواك، وقيام الليل» وأخرج أحمد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي أمامة في قوله: {نَافِلَةً لَّكَ} قال: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم نافلة ولكم فضيلة، وفي لفظ: إنما كانت النافلة خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج أحمد، والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا} وسئل عنه، قال: «هو المقام المحمود الذي أشفع فيه لأمتي». وأخرج أحمد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تلّ، ويكسوني ربى حلة خضراء، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود» وأخرج البخاري وغيره عن ابن عمر قال: إن كل أمة يوم القيامة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان، اشفع، يا فلان، اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله مقاماً محموداً. وأخرج عنه نحوه مرفوعاً، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدّاً ثابتة في الصحيحين وغيرهما فلا نطيل بذكرها، ومن رام الاستيفاء نظر في أحاديث الشفاعة في الأمهات وغيرها. وأخرج الطبراني في قوله: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا} قال: يجلسه فيما بينه وبين جبريل ويشفع لأمته، فذلك المقام المحمود. وأخرج الديلمي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}، قال: يجلسني معه على السرير» وينبغي الكشف عن إسناد هذين الحديثين. وأخرج أحمد، والترمذي، وصححه، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة، فأنزل الله {وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ واجعل لّى مِن لَّدُنْكَ سلطانا نَّصِيرًا}. وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل عن قتادة في قوله: {وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى} الآية، قال: أخرجه الله من مكة مخرج صدق، وأدخله المدينة مدخل صدق. قال: وعلم نبيّ الله أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلاّ بسلطان فسأل سلطاناً نصيراً لكتاب الله وحدوده وفرائضه ولإقامة كتاب الله، فإن السلطان عزة من الله جعلها بين أظهر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض، وأكل شديدهم ضعيفهم. وأخرج الخطيب عن عمر بن الخطاب قال: والله لما يزع الله بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: {جَاء الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا} و{جَاء الحق وَمَا يُبْدِئ الباطل وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]. وفي الباب أحاديث. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} قال: تباعد. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {كَانَ يَئُوساً} قال: قنوطاً، وفي قوله: {كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ} قال: على ناحيته. وأخرج هناد، وابن المنذر عن الحسن قال: على شاكلته: على نيته. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: كنت أمشي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في خرب المدينة وهو متكئ على عسيب، فمرّ بقوم من اليهود فقال بعضهم لبعض: اسألوه عن الروح، فقال بعضهم: لا تسألوه، فقالوا: يا محمد، ما الروح؟ فما زال متكئاً على العسيب، فظننت أنه يوحى إليه، فقال: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً}. وأخرج أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن المنذر، وابن حبان، وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئاً نسأل هذا الرجل، قالوا: سلوه عن الروح، فنزلت {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} قالوا: أوتينا علماً كثيراً، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً، فأنزل الله {قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لكلمات رَبّى لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [الكهف: 109]. وفي الباب أحاديث وآثار.
{وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)} لما بيّن سبحانه أنه ما آتاهم من العلم إلاّ قليلاً بيّن أنه لو شاء أن يأخذ منهم هذا القليل لفعل، فقال: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} واللام هي الموطئة، و{لنذهبن} جواب القسم سادّ مسد جواب الشرط. قال الزجاج: معناه: لو شئنا لمحوناه من القلوب ومن الكتب حتى لا يوجد له أثر. انتهى. وعبر عن القرآن بالموصول تفخيماً لشأنه {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ} أي: بالقرآن {عَلَيْنَا وَكِيلاً} أي: لا تجد من يتوكل علينا في ردّ شيء منه بعد أن ذهبنا به، والاستثناء بقوله: {إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} إن كان متصلاً فمعناه: إلاّ أن يرحمك ربك فلا نذهب به، وإن كان منقطعاً فمعناه: لكن لا يشأ ذلك رحمة من ربك، أو لكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} حيث جعلك رسولاً وأنزل عليك الكتاب وصيرك سيد ولد آدم، وأعطاك المقام المحمود وغير ذلك مما أنعم به عليه. ثم احتج سبحانه على المشركين بإعجاز القرآن فقال: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان} المنزل من عند الله الموصوف بالصفات الجليلة من كمال البلاغة وحسن النظم وجزالة اللفظ {لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} أظهر في مقام الإضمار، ولم يكتف بأن يقول: لا يأتون به على أن الضمير راجع إلى المثل المذكور، لدفع توهم أن يكون له مثل معين، وللإشعار بأن المراد نفي المثل على أي صفة كان، وهو جواب قسم محذوف كما تدل عليه اللام الموطئة، وسادّ مسدّ جواب الشرط، ثم أوضح سبحانه عجزهم عن المعارضة سواء كان المتصدي لها كل واحد منهم على الانفراد، أو كان المتصدر بها المجموع بالمظاهرة فقال: {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} أي: عوناً ونصيراً، وجواب لو محذوف، والتقدير: ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً لا يأتون بمثله، فثبت أنهم لا يأتون بمثله على كل حال، وقد تقدّم وجه إعجاز القرآن في أوائل سورة البقرة. وفي هذه الآية ردّ لما قاله الكفار: {لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} [الأنفال: 31]، وإكذاب لهم. ثم بين سبحانه أن الكفار مع عجزهم عن المعارضة استمروا على كفرهم وعدم إيمانهم فقال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرءان مِن كُلّ مَثَلٍ} أي: رددنا القول فيه بكلّ مثل يوجب الاعتبار من الآيات والعبر والترغيب والترهيب والأوامر والنواهي وأقاصيص الأوّلين والجنة والنار والقيامة {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا} يعني: من أهل مكة، فإنهم جحدوا وأنكروا كون القرآن كلام الله بعد قيام الحجة عليهم، واقترحوا من الآيات ما ليس لهم، وأظهر في مقام الإضمار حيث قال: {فأبى أكثر الناس} توكيداً أو توضيحاً، ولما كان {أبى} مؤولاً بالنفي، أي: ما قبل، أو لم يرض، صح الاستثناء منه قوله: {إِلاَّ كُفُورًا}. {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} أي قال رؤساء مكة كعتبة وشيبة ابني ربيعة وأبي سفيان والنضر بن الحرث، ثم علقوا نفي إيمانهم بغاية طلبوها فقالوا: {حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً}. قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم {حتى تفجر} مخففاً، مثل: تقتل. وقرأ الباقون بالتشديد، ولم يختلفوا في {فتفجر الأنهار} أنها مشدّدة، ووجه ذلك أبو حاتم بأن الأولى بعدها ينبوع وهو واحد، والثانية بعدها الأنهار وهي جمع. وأجيب عنه: بأن الينبوع وإن كان واحداً في اللفظ فالمراد به الجمع، فإن الينبوع العيون التي لا تنضب. ويردّ بأن الينبوع: عين الماء، والجمع: الينابيع، وإنما يقال للعين ينبوع إذا كانت غزيرة من شأنها النبوع من غير انقطاع، والياء زائدة كيعبوب، من عبّ الماء. {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ} أي: بستان تستر أشجاره أرضه. والمعنى: هب أنك لا تفجر الأنهار لأجلنا ففجرها من أجلك بأن تكون لك جنة {مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الأنهار} أي: تجريها بقوة {خلالها تَفْجِيرًا} أي: وسطها تفجيراً كثيراً {أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} قرأ مجاهد (أو تسقط) مسنداً إلى السماء. وقرأ من عداه (أو تسقط) على الخطاب، أي: أو تسقط أنت يا محمد السماء. والكسف بفتح السين جمع كسفة. وهي قراءة نافع وابن عامر، وعاصم، والكسفة: القطعة. وقرأ الباقون «كسفاً» بإسكان السين. قال الأخفش: من قرأ بإسكان السين جعله واحداً ومن قرأ بفتحها جعله جمعاً. قال المهدوي: ويجوز أن يكون على قراءة الكون جمع كسفة، ويجوز أن يكون مصدراً. قال الجوهري: الكسفة القطعة من الشيء، يقال: أعطني كسفة من ثوبك، والجمع كِسْفٌ وكِسَفٌ، ويقال: الكسف والكسفة واحد، وانتصاب {كسفاً} على الحال، والكاف في {كما زعمت} في محل نصب على أنه صفة مصدر محذوف، أي: إسقاطاً ممائلاً لما زعمت، يعنون بذلك قول الله سبحانه {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السماء} [سبأ: 9]. قال أبو علي: الكسف بالسكون: الشيء المقطوع، كالطحن للمطحون، واشتقاقه على ما قال أبو زيد من كسفت الثوب كسفاً: إذا قطعته. وقال الزجاج: من كسفت الشيء، إذا غطيته، كأنه قيل: أو تسقطها طبقاً علينا {أَوْ تَأْتِىَ بالله والملئكة قَبِيلاً}. اختلف المفسرون في معنى {قَبِيلاً} فقيل: معناه: معاينة، قاله قتادة وابن جريج، واختاره أبو علي الفارسي فقال: إذا حملته على المعاينة كان القبيل مصدراً كالنكير والنذير. وقيل: معناه: كفيلاً، قاله الضحاك، وقيل: شهيداً، قاله مقاتل، وقيل هو جمع القبيلة، أي: تأتي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة، قاله مجاهد وعطاء، وقيل: ضمناً، وقيل: مقابلاً كالعشير والمعاشر. {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ} أي: من ذهب، وبه قرأ ابن مسعود، وأصله: الزينة، والمزخرف: المزين، وزخارف الماء: طرائقه، وقال الزجاج: هو الزينة، فرجع إلى الأصل معنى الزخرف، وهو بعيد؛ لأنه يصير المعنى: أو يكون لك بيت من زينة {أَوْ ترقى فِى السماء} أي: تصعد في معارجها يقال: رقيت في السلم: إذا صعدت وارتقيت. مثله {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ} أي: لأجل رقيك، وهو مصدر نحو: مضى يمضي مضياً، وهوى يهوي هوياً {حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ} أي: حتى تنزل علينا من السماء كتاباً يصدقك ويدل على نبوّتك نقرؤه جميعاً، أو يقرؤه كل واحد منا، وقيل: معناه: كتاباً من الله إلى كل واحد منا كما في قوله: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} [المدثر: 52] فأمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بما يفيد التعجب من قولهم، والتنزيه للربّ سبحانه عن اقتراحاتهم القبيحة فقال: {قُلْ سبحان رَبّى} أي: تنزيهاً لله عن أن يعجز عن شيء. وقرأ أهل مكة والشام (قال سبحان ربي) يعني النبي صلى الله عليه وسلم {هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا} من البشر لا ملكاً حتى أصعد السماء {رَسُولاً} مأموراً من الله سبحانه بإبلاغكم، فهل سمعتم أيها المقترحون لهذه الأمور أن بشراً قدر على شيء منها؟ وإن أردتم أني أطلب ذلك من الله سبحانه حتى يظهرها على يدي، فالرسول إذا أتى بمعجزة واحدة كفاه ذلك، لأن بها يتبين صدقه، ولا ضرورة إلى طلب الزيادة، وأنا عبد مأمور ليس لي أن أتحكم على ربي بما ليس بضروري، ولا دعت إليه حاجة، ولو لزمتني الإجابة لكل متعنت لاقترح كل معاند في كل وقت اقتراحات، وطلب لنفسه إظهار آيات، فتعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً، وتنزّه عن تعنتاتهم، وتقدّس عن اقتراحاتهم. وقد أخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: إن هذا القرآن سيرفع، قيل: كيف يرفع وقد أثبته الله في قلوبنا وأثبتناه في المصاحف؟ قال: يسري عليه في ليلة واحدة فلا يترك منه آية في قلب ولا مصحف إلاّ رفعت، فتصبحون وليس فيكم منه شيء، ثم قرأ {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} وقد روي عنه هذا من طرق. وأخرج ابن عدّي عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه. وأخرج محمد بن نصر عن عبد الله بن عمرو نحوه موقوفاً. وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن معاذ بن جبل مرفوعاً نحوه أيضاً. وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن أبي هريرة موقوفاً نحوه أيضاً. وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، والديلمي عن حذيفة بن اليمان مرفوعاً نحوه أيضاً. وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعاً نحوه أيضاً. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمود بن شيخان ونعيمان بن آصي وبحري بن عمرو وسلام بن مشكم، فقالوا: أخبرنا يا محمد بهذا الذي جئت به أحق من عند الله، فإنا لا نراه متناسقاً كما تناسق التوراة؟ فقال لهم: " والله إنكم لتعرفونه أنه من عند الله "، قالوا: إنا نجيئك بمثل ما تأتي به، فأنزل الله {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن}»، الآية. وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب، ورجلاً من بني عبد الدار، وأبا البحتري أخا بني أسيد والأسود بن عبد المطلب وربيعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، ونبيهاً ومنبها ابني الحجاج السهميين اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه، وذكر حديثاً طويلاً يشتمل على ما سألوه عنه وتعنتوه، وأن ذلك كان سبب نزول قوله: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} إلى قوله: {بَشَرًا رَّسُولاً}. وإسناده عند ابن جرير هكذا: حدّثنا أبو كريب، حدّثنا يونس بن بكير، حدّثنا محمد بن إسحاق، حدّثني شيخ من أهل مصر، قدم منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس فذكره، ففيه هذا الرجل المجهول. وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} قال: نزلت في أخي أمّ سلمة عبد الله بن أبي أمية. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {يَنْبُوعًا} قال: عيوناً. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال: الينبوع: هو النهر الذي يجري من العين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ} يقول: ضيعة. وأخرج ابن جرير عنه {كسفاً} قال: قطعاً. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً {قَبِيلاً} قال: عياناً. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً {مّن زُخْرُفٍ} قال: من ذهب. وأخرج أبو عبيد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري، وأبو نعيم عن مجاهد قال: لم أكن أحس ما الزخرف؟ حتى سمعتها في قراءة عبد الله (أو يكون لك بيت من ذهب). وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: {كِتَابًا نَّقْرَءهُ} قال: من ربّ العالمين إلى فلان ابن فلان. يصبح عند كل رجل صحيفة عند رأسه موضوعة يقرؤها.
|